الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من فوائد القاسمي في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}. أرشد تعالى المؤمنين، إثر الأمر بالشكر في الآية قبل، بالاستعانة بالصبر والصلاة؛ لأن العبد إما أن يكون في نعمة فيكر عليها، أو في نقمة فيصبر عليها. كما جاء في الحديث: «عجبًا للمؤمن لا يقضى له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خير له». وبيّن تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب في سبيل الله، الصبر والصلاة؛ كما تقدم في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى. ثم إن الصبر صبران: صبر على ترك المحارم والمآثم، وصبر على فعل الطاعات والقربات. والثاني أكثر ثوابًا؛ لأن المقصود وأما الصبر الثالث، وهو الصبر على المصائب والنوائب، فذاك أيضًا واجب. كالاستغفار من المعائب. وقال الإمام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية وأعظم عون لوليّ الأمر خاصة، ولغيره عامة ثلاثة أمور: أحدها الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره. وأصل ذلك المحافظة على الصلاة بالقلب والبدن. والثاني الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة. والثالث الصبر على الأذى من الخلق وغيره من النوائب؛ ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيرًا كقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45]، وكقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114- 115]، وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، وأما قِرانُهُ بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جدًا. فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية، إذا عرف الْإِنْسَاْن ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة، يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى ودعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه، وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع: من نصر المظلوم وإعانة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج. وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الشر والبطر. انتهى. {إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} قال الإمام ابن تيمية في شرح حديث النزول: لفظ المعية في كتاب الله جاء عامًا كما في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وفي قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] إلى قوله: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] وجاء خاصًا كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص، فإنه قد علم أن قوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} أراد به تخصيص نفسه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار، وكذلك قوله: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} خصهم بذلك دون الظالمين والفجار. وأيضًا، فلفظ المعية ليست في لغة العرب ولا في شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى. كما في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29]، وقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146]، وقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وقوله: {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} [الأنفال: 75]، ومثل هذا كثير. فامتنع أن يكون قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} يدل على أن تكون ذاته مختلطة بذوات الخلق. وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر وبين أن لفظ المعية في اللغة، وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة، فهو، إذا كان مع العباد، لم يناف ذلك علوّه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصرة والتأييد. انتهى مختصرًا. اهـ. .من فوائد الشعراوي في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}. الله سبحانه وتعالى يطالبنا أن نستعين بالصبر والصلاة.. على ماذا؟ على كل ما يطلبه منا الله.. على تكليفاته ومنهجه نستعين على ذلك بالصبر والصلاة.. ولكن لماذا الصبر؟ لأن الصبر هو منع النفس من أي شيء يحدث وهو يأخذ ألوانا شتى حسب تسامي الناس في العبادة.. فمثلا سئل الإمام علي رضي الله عنه عن حق الجار؟ قال: تعلمون أنك لا تؤذيه؟ قالوا نعم.. قال وأن تصبر على أذاه.. فكأنه ليس مطلوبا منك فقط ألا تؤذي جارك بل تصبر على أذاه.. والصبر هو الذي يعينك على أن تفعل ما أمرك الله به ولا تفعل ما نهاك عنه. إن الله منعك من أشياء هي من شهوات النفس وأمرك بأشياء فيها مشقة وهذه محتاجة إلي الصبر.. وأنت أن أخذت منهج الله تعبدًا ستأخذه فيما بعد عادة يقول أحد الصالحين في دعائه: اللهم إني أسألك ألا تكلني إلي نفسي فإني أخشى يا رب ألا تثيبني على الطاعة لأنني أصبحت أشتهيها فسبحانك أمرتنا أن نحارب شهواتنا.. انظر إلي الطاعة من كثرة حب الله أصبحت مرغوبة محببة إلي النفس.. رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لبلال ساعة الآذان: «أرحنا بها يا بلال». ولم يقل كما يقول بعض الناس والعياذ بالله أرحنا منها؛ ذلك أن هناك من يقول لك أن الصلاة تكون على كتفي مثل الجبل وأرتاح، نقول له أنت ترتاح بها ولا ترتاح منها؛ لأنك وقفت بين يدي الله المكلف، ومادام الإنسان واقفا أمام ربه فكل أمر شاق يصبح سهلا. يقول أحد العابدين: أنا لا أواجه الله بعبوديتي ولكن أواجهه بربوبيته فأرتاح لأنه ربي ورب العالمين.. الذي له أب يعينه لا يحمل هما فما بالك بالذي له رب يعينه وينصره. قول الحق سبحانه: {إن الله مع الصابرين} أي أنه يطلب منك أن تواجه الحياة في معية الله؛ فأنت لو واجهت المشكلات في معية من يثق في قوته تواجه الأمور بشجاعة فما بالك إذا كنت في معية الله وكل شيء في الوجود خاضع لله، أيجرؤ شيء أن يقف أمامك وأنت مع الله؟ إن الأحداث لا تملأ الخلق بالفزع والهلع إلا ساعة الانفلات من حضانة ربهم.. وإنما من يعيش في حضانة ربه لا يجرؤ عليه الشيطان فالشيطان خناس.. ما معنى خناس؟ إذا سهوت عن الله اجترأ عليك وإذا ذكرت الله خنس وضعف؛ فهو لا قوة له.. وهو لا يدخل مع الله سبحانه وتعالى في معركة، وإنما يدخل مع خلق الله الذين ينسون الله ويبتعدون عنه يقول القرآن الكريم: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} سورة ص. ومادام الله سبحانه وتعالى مع الصابرين فلابد أن نعشق الصبر.. وكيف لا نعشق ما يجعل الله معنا؟ يقول الحق جل جلاله في الحديث القدسي: «يا بن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟» أخرجه الإمام مسلم في صحيحه يقول بعض الصالحين: اللهم إني استحي أن أسألك الشفاء والعافية حتى لا يكون ذلك زهدا في معيتي لك.. إذن لابد أن نعشق الصبر لأنه يجعلنا دائمًا في معية الله. الله سبحانه وتعالى يقول: {إن الله مع الصابرين}.. ونحن نريد أن يكون الله سبحانه معنا دائما.. إن هذه الآية لا تجعل الإنسان ييأس مهما لقى في حركة حياته من المشقة. اهـ. .موعظة: أو ما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟ أما كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الكل ثم إنه قام حتى ورمت قدماه؟ أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج كثير البكاء؟ أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع؟ أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة؟ أما كان علي رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع؟ ويقول: يا دنيا غُرِّي غَيْري؟. أما كان الحسن البصري يحيا على قوة القلق؟ أما كان سعيد بن المسيب ملازما للمسجد فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة؟ أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر؟ أما قالت بنت الربيع بن خيثم له: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ فقال: إن أباك يخاف عذاب البيات. أما كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطا في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر؟ أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة؟ وكان يقول: وَالَهْفاه سبقني العابدون وقطع بي. أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة؟ أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف؟ أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف؟ أما تعلمين أخيار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؟ فاحذري من الإخلاد إلى صورة العلم مع ترك العمل به فإنها حالة الكسالى الزمنى: .التفسير المأثور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}. أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: غشي على عبد الرحمن بن عوف في وجعه غشية ظنوا أنه قد فاضت نفسه فيها حتى قاموا من عنده وجللوه ثوبًا، وخرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر والصلاة، فلبثوا ساعة وهو في غشيته ثم أفاق. اهـ. .تفسير الآية رقم (154): .سبب النزول: .قال الخازن: .قال الثعالبي: .من أقوال المفسرين: .قال الحرالي: ولما كان الحس قاصرًا عما أخبر به سبحانه وتعالى قال منبهًا على ذلك {ولكن لا تشعرون} أنهم أحياء كما ترون النيام همودًا لا يتحركون ولا شعور لكم بمن فيهم ينظر، أحلامًا من غيره، فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا ولا عيش أرغد منه في الآخرة، وأما المقتول من أعدائكم فليس له في الدنيا إلا الخزي والفضيحة بالقهر والذل والهوان والعذاب الذي لا آخر له في الآخرة. قال الحرالي: قال ذلك نفيًا بكلمة لا ومثال الدوام ففيه إعلام بأن الذين آمنوا ليس في رتبتهم الشعور به أصلًا إلا أن يرقيهم الله بنماء سن القلوب وصفاء الأنفس إلى ما فوق ذلك من سن المؤمنين إلى سن المحسنين الذين يشهدون من الغيب ما لا يشهده من في رتبة الذين آمنوا. انتهى. وفي هذا إشارة إلى أن كون الله معهم لا يمنع أن يستشهد منهم شهداء، بل ذلك من ثمرات كون الله معهم حيث يظفر من استشهد منهم بسعادة الأخرى ومن بقي بسعادة الدارين، وتلخيص ذلك أن يقال إنه لما كان حاصل ما تقدم في هذه السورة أن أهل الأرض كلهم قريبهم وبعيدهم وثنيهم وكتابيهم مطبقون على عداوة أهل هذا الدين وكان كثيرًا ما يأمرهم بالصبر على أذاهم اشتد تشوّف النفوس إلى أنه هل بعد هذا الكف من فعل، فأشار إلى أنه سيأمر بعد الصبر على أذى اللسان بالصبر على جلاد السيف والسنان أمرًا عامًا فقال عاطفًا هذا النهي على الأمر بالصبر، أي اصبروا الآن على هذا الأذى ثم اصبروا إذا أمرتكم بالجهاد على وقع السيوف واقتحام الحتوف وفقد من يقتل منكم ولا تصفوهم بالموت، ولعله فاجأهم بما تضمنته هذه الآية توطينًا لهم على القتل في سبيله وكان استشرافهم إلى الحرب قد كثر وبشرهم بأن القتيل فيه حي وإن رئي ميتًا تسلية لهم عن هذا الحادث العظيم والخطب الجسيم. اهـ. سؤال: لم عطف النهى في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} على الأمر في الآية السابقة {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ}؟ الجواب: عطف النهي على الأمر قبله لمناسبة التعرض للغزو مما يتوقع معه القتل في سبيل الله، فلما أمروا بالصبر عرفوا أن الموت في سبيل الله أقوى ما يصبرون عليه، ولكن نبه مع ذلك على أن هذا الصبر ينقلب شكرًا عندما يَرى الشهيد كرامته بعد الشهادة، وعندما يوقن ذووه بمصيره من الحياة الأبدية، فقوله: {ولا تقولوا} نهي عن القول الناشئ عن اعتقاد. اهـ.
|